حبس المدين في قبره بدينه :
ومما يضر الميت في قبره ما عليه من دين ، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه : " أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم ، وترك عيالاً ، قال : فأردت أن أنفقها على عياله ، قال : فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخاك محبوس بدينه ، [فاذهب] فاقض عنه ، [فذهبت فقضيت عنه ، ثم جئت] ، قلت : يا رسول الله ، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة ، وليست لها بيِّنه ، قال : أعطها فإنه محقة ، (وفي رواية صادقة) (11) " .
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الصحابي محبوس بسبب دينه ، ويمكن أن يُفسِّر هذا الحبس الحديث الآخر حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنه مأسور بدينه عن الجنة " ، ففي الحديث الذي يرويه سمرة بن جندب " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ، (وفي رواية صلى الصبح)...
فلما انصرف قال : أههنا من آل فلان أحد ؟ [ فسكت القوم ، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا ] ، فقال ذلك مراراً ، [ ثلاث لا يجيبه أحد ] ، [ فقال رجل : هو ذا ] ، قال : فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس ، [ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني ؟ ] أما إني لم أنوِّه باسمك إلا لخير ، إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه [ عن الجنة ، فإن شئتم فافدوه ، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله ] ، فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه ، [ حتى ما أحد يطلبه بشيء ] (12) .
عذاب الميت ببكاء الحي :
عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي ، يقول : وا أخاه ، واصاحباه ، فقال عمر رضي الله عنه : يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه " (13) .
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث ، ففي صحيح البخاري أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته ، فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، حسبكم القرآن ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر :18] (14) ، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل ، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن (15) .
وها هنا أمران : الأول هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ؟ قال القرطبي : " إنكار عائشة ذلك ، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ، ولم يسمع بعضاً بعيد ، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون ، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح " (16) .
الثاني : كيف يعذب ببكاء أهله عليه ، وليس ذلك من فعله ، والله يقول : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر : 18] .
للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته ، قال رحمه الله تعالى : " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته " لقول الله تعالى : ( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) [التحريم : 6]...
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع ومسؤول عن رعيته " فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر : 18] (17) وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله ، فإنه روى حديث عمر رضي الله عنه بلفظ " الميت يعذب ببكاء أهله عليه " ثم قال: " قال أبو عيسى (هو الترمذي) : حديث عمر حديث حسن صحيح ، وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت ، قالوا : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وذهبوا إلى هذا الحديث ، وقال ابن المبارك : أرجو إن كان ينهاهم في حياته ، أن لا يكون عليه من ذلك شيء " (18) .
وهذا الفقه للحديث هو مذهب القرطبي رضي الله عنه ، فإنه قال : " قال بعض العلماء أو أكثرهم : إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره ، كما قال :
إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد
وكذلك إذا وصى به (19) .
" وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية ، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء ، والنوح عليهم ، وإشاعة النعي في الأحياء ، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم ، وموجوداً في أشعارهم كثيراً ، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته " كذا قال ابن الأثير (20) .
وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري ، فقد جاء فيه : " يعذب ببعض بكاء أهله عليه" ، ولا يعذب بكل البكاء ، فالبكاء الذي تدمع فيه العين ، ولا شق ، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به ، وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة .
وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابن عبد البرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب ببكاء الحي ، فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك : " وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف ، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره ، فهو مخالف لقوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )[فاطر : 18] ، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة .
فمنهم من غلَّط الرواة لها ، كعمر بن الخطاب وغيره ، وهذه طريقة عائشة والشافعي، وغيرهما . ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه ، وهو قول طائفة كالمزني ، وغيره .
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم ، فيعذب على ترك النهي عن المنكر ، وهو اختيار طائفة منهم جدى أبو البركات ، وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً " (21) وقد رد قول الذين ردوا هذه الأحاديث بنوع من التأويل ، فقال: " والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، لا ترد بمثل هذا ، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ، ولا يكون الأمر كذلك ، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً " (22) .
ثم بين رحمه الله تعالى أن عائشة وقعت في مثل ما فرت عنه ، قال : " وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " ، وهذا موافق لحديث عمر ، فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله ، جاء أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله ، ولهذا رد الشافعي في " مختلف الحديث " هذا الحديث نظراً إلى المعنى ، وقال الأشبه روايتها الأخرى : " إنهم يبكون عليه ، وإنه ليعذب في قبره " (23) .
ورد قول الذين ظنوا أن الحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره ، فقال : " والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم (24) وبعد أن أطال النفس في هذه المسألة : مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم ، وأن هذا ليس بصواب من القول ، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه ، وأن الذين لم يبتلوا يمتحنون في عرصات القيامة ...
قال : " وأما تعذيب الميت : فهو لم يقل : إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ، بل قال : " يعذب " ، والعذاب أعمُّ من العقاب ، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السفر قطعة من العذاب ، يمْنَعُ أحدكم طعامه وشرابه " ، فسمى السفر عذاباً ، وليس هو عقاباً .
والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها ، مثل الأصوات الهائلة ، والأرواح الخبيثة ، والصور القبيحة ، فهو يتعذب بسماع هذا وشَمِّ هذا ، ورؤية هذا ، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه ، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة ، وإن لم تكن النياحة عملاً له ، يعاقب عليه ؟
والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ، ويتألم برؤية بعضهم ، وبسماع كلامه، ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها ، كما جاءت بذلك الآثار ، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم ، ثم النياحة سبب العذاب " (25) .
وهذا الفقه الذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه ، فعن النعمان بن بشير ، قال : " أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، فجعلت أخته عمرة تبكي : واجبلاه ، واكذا ، واكذا ، تعدد عليه ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئاً إلا قيل لي ، أنت كذلك ؟! فلما مات لم تبك عليه " (26) بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ميت يموت ، فيقوم باكيه ، فيقول : واجبلاه ! واسيداه ! أو نحو ذلك ، إلا وكل به ملكان يلهزانه : أهكذا كنت " رواه الترمذي . وقال : هذا حديث حسن غريب (27) ، وقال الحافظ في التلخيص بعد سياقه لهذا الحديث : " ورواه الحاكم وصححه ، وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير " (28) .
وينبغي أن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه ، فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه – كما يقول ابن تيمية – كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة ، والأرواح والصور الخبيثة . ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب ، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك ، إما بتوبة مقبولة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائب مكفرة ، وإما بشفاعة شفيع مطاع ، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته . وبين في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عن سيئاته (29) .